مقال الأحد 24/6/2007
الوداعة وقوة الشخصية
بقلم: البابا شنودة الثالث
بدأتمعكم في مقالي السابق موضوعا عن الوداعة، فتحدثت عن علاقة الوداعة بدماثة الخلق،فشرحت بعضا من شخصية الإنسان الوديع ورقته وهدوئه ولطفه واحتماله.. ولكي نستكملهذا الموضوع، علينا أن نتحدث عن نقطة أخري مهمة وهي علاقة الوداعة بقوة الشخصية،وبالذات بفضائل أخري مثل الشجاعة والشهامة والنخوة والجرأة، وهل كل تلك الفضائلتتعارض مع الوداعة في رقتها وهدوئها؟..
** إن الفضائل لايناقض بعضهابعضا، فهي تتكامل ولاتتعارض، وينبغي أن يفهم الناس معني الوداعة في حكمة، فالمعروفأن الطيبة هي الطبع السائد عند الوديع، ولكن عندما يدعوه الموقف إلي الشهامة أوالشجاعة أو الشهادة للحق، فلا يجوز أن يمتنع عن ذلك بحجة التمسك بالوداعة، أما انامتنع عن الموقف الشجاع، فلا تكون هذه وداعة حقيقية، إنما تصير رخاوة في الطبع،وعدم فهم للوداعة، بل عدم فهم للحياة الروحانية بصفة عامة.
فالروحانيةليست تمسكا بفضيلة واحدة تلغي معها باقي الفضائل، إنما هي في ممارسة كل الفضائل معابطريقة متجانسة ومتعاونة.
إن الشخص الوديع الطيب الهادئ، ليس هو جثة هامدةلا تتحرك، بل إنه ـ إذا دعته الضرورة ـ يتحرك بقوة نحو الخير ونحو الغير، ولايكونهذا ضد الوداعة في شيء، إنما عدم تحركه يكون نوعا من الخمول، ويلام عليه.. وربمايصبح هزأة في نظر الناس..
** فالوديع يمكن أن يدافع عن المظلوم، وانينقذ المحتاج، هل إذا رأي شخصا في خطر، معرضا للقتل من بعض الأشرار، ألا يهمبإنقاذه، أم يحجم عن ذلك مدعيا ان الوداعة لاتتدخل في شئون الغير؟! وهل إن سمعفتاة تصرخ وهي تستغيث بسبب أشخاص يحاولون الاعتداء عليها، أتراه يبعد عن انقاذها،أم هو بكل شهامة ينقذها، ولو أدي به الأمر أن يدخل في عراك أو شجار.. فهكذا يكونموقف الرجولة والفروسية. وهو لايتعارض مع الوداعة في شيء..
** إنالوديع لايكون سلبيا باستمرار، إنما يتخذ الوضع الإيجابي حينما تدفعه الضرورة اليذلك، فهو يشهد للحق ولا يمتنع، كما يتدخل لحل مشاكل الغير حين يكون في طاقة يده أنيفعل ذلك، ويكون حله للمشاكل في هدوء يتفق مع طبيعته، وفي حدود الواجبعليه.
** من خصال الوديع ألايتكلم كثيرا، ولكنه في ذلك يضع أمامه قولسليمان الحكيم لكل شيء تحت السماوات وقت، للكلام وقت، وللسكوت وقت.. لذلك فهويتكلم حين يحسن الكلام، ويصمت حين يحسن الصمت. وإذا تكلم يكون لكلامه تأثيرهوقوته. وإن صمت يكون في صمته أيضا قوة.. ولكنه لايصمت حين تدعوه الضرورة اليالكلام، شاعرا بأننا أحيانا ندان علي صمتنا..
** هنا ونسأل: هل يمكنللانسان الوديع الطيب القلب أن ينتهر ويوبخ ويؤدب؟ نقول: إن كان ذلك من واجبه،فلابد أن يفعل ذلك. فالأب له أن يؤدب أولاده، وإن لم يؤدبهم يجازه الله عليتقصيره. وكذلك المدرس بالنسبة الي مرءوسية، ورئيس أي عمل بالنسبة إلي مرءوسية.فكل هؤلاء يمكنهم أن ينتهروا ويوبخوا المخطئين، حفظا علي سلامة سير الأمور، ولايكونذلك ضد الوداعة.. علي أن يكون التوبيخ في غير قسوة، وبأسلوب عفيف لاتتدني فيهالألفاظ عن المستوي اللائق. والمعروف ان الأنبياء والرسل كانوا يوبخون البعيدينعن طريق الرب لكي يقودوهم الي التوبة، وما كان يتهمهم أحد بأنهم ضدالوداعة.
** في موضوع الوداعة إذن، ينبغي أن نفرق بين الأشخاص الذين همفي وضع المسئولية، وبين الذين لامسئولية لهم.
فالذي هو في منصب الإدارةوالمسئولية، له أن يأمر وينهي، بكل حزم لكي تستقيم أمور ادارته، ولكن ليس له أنيأمر في تسلط أو غطرسة، فهذا لا يتفق مع الوداعة، وهكذا يحتفظ بين الوداعة والسلطة،ولكن الانسان الوديع العادي الذي لامسئولية له، فإنه ينأي عن الأمر والنهي واستخدامالسلطة.
* كذلك فالشخص المسئول ينبغي ان تكون له هيبته واحترامه، لا فيكبرياء، إنما لتوقير منصبه وشخصه أيضا.
ويمكن ان يجمع بين الوداعةوالهيبة، فهو لايكلم الناس من فوق في تعال بل في بساطة وحسن تعامل واحتراملمشاعرهم، دون الإخلال بوقار رئاسته، وهكذا فإن الشخص المسئول يمكن ان يكون وديعا،لا وضيعا. وكبيرا لامتكبرا..
** هل يمكن إذن للإنسان الوديع ان يغضبوأن يحتج دون أن يتعارض ذلك مع وداعته.
نعم، يمكن ان يغضب، ولكن في غيرنرفزة( عصبية), لأن النرفزة هي ضعف في الأعصاب لايليق بالوداعة، إنما الوديع فيغضبه يعبر عن عدم رضاه، ويعبر عن ذلك في حزم وفي هدوء، دون صخب أو ضوضاء.. وهو فيغضبه يعمل علي تصحيح الأخطاء.
وله أيضا أن يحتج، ولكن في أدب وبأسلوب يليقبوداعته. واحتجاجه يكون تعبيرا عن عدم رضاه.
** إن الانسان الوديع لهإنسانيته الكاملة، وله حقوقه وعليه واجبات. وإن كانت الطيبة هي الصفة السائدة فيشخصيته، إلا أنها لاتلغي باقي صفات الشخصية من الشجاعة والشهامة والجرأة والشهادةللحق، كما ان للوديع حماسة قد تظهر في حينها، وإرادة تحب أن تعمل، والطيبة عندهلاتعني السذاجة، وإنما هي دائما تمتزج بالحكمة، وتسلك بالاسلوب الرصين في هدوء وبعدعن الضجيج.
** فالوديع لايهين أحدا، وفي نفس الوقت لايعرض ذاته للمهانة،وهو لايرد علي الإساءة بالإساءة، وأيضا يبعد عن المسيئين ويتحاشي الخلطة بهم. وهويحترم الناس، ويتصرف بما يدعوهم الي احترامه.. هو في مستوي مرتفع عن الخطأ، فبقدرإمكانه لايقع في خطأ. أما ان اخطأ اليه احد، فذاك يبكته ضميره ويبكتهالآخرون.
** لهذا كله لا نتناول الوداعة بأسلوب أنصاف الحقائق، بلنعرضها بحقيقتها الكاملة، سواء من جهة دماثة الخلق، أو من جهة قوة الشخصية أيضا،وبهذا تتضح صورتهاالحقيقية