شفاعة العذراء مريم
معروف قطعاً، في تقليدنا الارثوذكسي، أن العلاقة الطبيعية التي كانت قائمة بين العذراء وابنها الإله المتجسد، لم تضف على شخصية العذراء حالة اشتراك في طبيعة المسيح الإلهية، حتى بالرغم من حلول الروح القدس عليها أولاً ، الذي اعدها فقط لحمل الإله ولكن لم يهبها الشركة في طبيعة الله. لكن العذراء مريم تملك شيئاً يفوق إمكانية أي إنسان بل كل ملاك لذلك ننظر إليها كشفيعة، وهذه الشفاعة تنبع من مكانتها الممتازة عند ابنها وإلهها. وكما قلنا سابقاً تؤكد الكنيسة الارثوذكسية أن المسيح هو الوسيط والمخلّص الوحيد، لكن مع ذلك لا تخشى أن توجه إلى العذراء الدعاء المذهل "أيتها الفائق قدسها والدة الإله خلصينا" هذا النداء يمكن أن يؤدي إلى فهم خاطئ لتكريم العذراء. فمريم تخلّص بشفاعتها وصلواتها لانها والدة الإله الفائقة القداسة، لأنها انتقلت إلى الحياة حيث تقف كملكة إلى يمين ابنها. يقول المزمور في هذا "بنات ملوك بين خطيباتك جعلت الملكة عن يمينك بذهب وفير".مزمور9:45 فشفاعتها تستمدها من وجودها إلى يمين ابنها الإلهي. لذلك يتمسك التقليد في الأيقونة أن لا يرسم العذراء وحدها، بل دوماً مع ابنها الذي هو المخلص والفادي، الذي لا شفاعة لأي من الناس بمعزل عنه.
شفاعة العذراء ودالتها ظهرتا جلياً وبأقوى صورةٍ لها في عرس قانا الجليل يوحنا1:2-5 عندما تقدمت إليه بسؤالٍ أن يصنع لهم خمراً، فقد كانت شفيعة العرس كله. وهذه الحادثة تبرز شفاعة العذراء بتقديم حاجتها إلى المسيح بثقة ودالة وإيمان. فعندما تخطّى السيد عبارة "لم تأتي ساعتي بعد"، قدم إعلاناً صريحاً أمام الجميع للدالة التي تملكها العذراء وقوة شفاعتها لديه. فهو يجيب على طلبها بالعمل رغم قوله لم تأتِ ساعتي بعد.
العذراء هي أم الجنس البشري التي تصلي من أجله وتشفع فيه. حيث تعرضها أيقونة الشفاعة، هي ويوحنا المعمدان معاً، يقدمان للمسيح صلاة الكنيسة. وبهذا يقول القديس ثيوذورس الستوديتي عن والدة الإله: "إن والدة الإله قد أغمضت جفني جسدها ولكنها ترفع الآن ألحاظ نفسها كنيرين مشّعين عظيمين لا يستطيعان أن ينطفئا. لأنها تسهر علينا وتتشفع لدى الله في حماية العالم" ( حياة السيدة العذراء مريم، منشورات مدارس الأحد، عمان، 2000 ص 153) القديس يوحنا الدمشقي يدعو مريم بالمتوسطة ويصورها بسلم يعقوب، ويكتب مخاطباً والدة الإله: "بإتمامك وظيفة الوساطة أصبحت سلم الله به انحدر إلينا، أخذ على عاتقه طبيعتنا الضعيفة وضمها إليه ووحدها معه. أنت جمعت معاً ما قد انفصل" ( حياة السيدة العذراء مريم، منشورات مدارس الأحد، عمان، 2000 ص 153) فقد عرف المسيحيون منذ الأزمنة الأولى قوة شفاعة العذراء، فاستدعوها في صلواتهم وسألوها ممجدين عظمتها دائماً؛ يسألونها المعونة في المصائب ويستسلمون لحمايتها، لأنهم يؤمنون بأن مخلص العام لا يخيّبها، وهي تستجيب لهم بتنفيذ طلباتهم وصنع العجائب.
تاريخ الكنيسة غني بظهورات والدة الإله، ولا يوجد مكان في العالم لا يخبِّر عن عجائبها ورحمتها، وقد ألّفت لها الكثير من الصلوات والمدائح، وعلى اسمها شيدت الكنائس وكُرسّت لها مدن وأديرة في مختلف أرجاء العالم، وكَرست الكنيسة الارثوذكسية أياماً كثيرة لأعيادها وعجائبها. فالتقليد الآبائي يعلن بأن خلاص العالم يتم بشفاعة العذراء فيقول القديس يوحنا الدمشقي: "إنها بالحقيقة صارت سيدة الخليقة، عندما صارت أماً للخالق